فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا أنْعَمْنَا عَلَى الإنسان} يريد الكافر {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}.
وقال ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف أعرضوا عن الإسلام وتباعدوا عنه.
ومعنى {نَآى بِجَانِبِهِ} أي ترفَّع عن الانقياد إلى الحق وتكبر على أنبياء الله.
وقيل: {نَآى} تباعد.
يقال: نأيته ونأيت عنه نأيًا بمعنى تباعدت عنه، وأنايته فانتأى: أبعدته فبعُد، وتناؤوا تباعدوا، والمنتأى الموضع البعيد؛ قال النابغة:
فإنَّك كاللَّيلِ الَّذِي هو مُدْرِكِي ** وإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عنْكَ واسِعُ

وقرأ يزيد بن القعقاع و{نَاءَ بِجَانِبِهِ} بالألف قبل الهمزة.
فيجوز أن يكون من {ناء} إذا نهض.
ويجوز أن يكون على قلب الهمزة بمعنى الأوّل.
{وَإِذَا مَسَّهُ الشر} أي أصابه المكروه {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة.
يقال: أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر.
وقال ابن عباس: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} فذو تضرع واستغاثة.
والكافر يعرف ربه في البلاء ولا يعرفه في الرخاء.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أي قل لهم يا محمد {أَرَأَيْتُمْ} يا مَعْشَرَ المشركين {إِن كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} أي فأي الناس أضل، أي لا أحد أضل منكم لفرط شقاقكم وعداوتكم.
وقيل: قوله: {إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله} يرجع إلى الكتاب المذكور في قوله: {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} والأوّل أظهر وهو قول ابن عباس.
قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق} أي علامات وحدانيتنا وقدرتنا {فِي الآفَاقِ} يعني خراب منازل الأمم الخالية {وفي أَنفُسِهِمْ} بالبلايا والأمراض.
وقال ابن زيد: {فِي الآفَاقِ} آيات السماء {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} حوادث الأرض.
وقال مجاهد: {فِي الآفَاقِ} فتح القرى؛ فيسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده وأنصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عمومًا، وفي ناحية المغرب خصوصًا من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعفائهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أمورًا خارجة عن المعهود خارقة للعادات {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} فتح مكة.
وهذا اختيار الطبري.
وقاله المنهال بن عمرو والسدي.
وقال قتادة والضحاك: {فِي الآفَاقِ} وقائع الله في الأمم {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} يوم بدر.
وقال عطاء وابن زيد أيضًا {فِي الآفَاقِ} يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغيرها.
وفي الصحاح: الآفاق النواحي، واحدها أُفْقٌ وَأفُقٌ مثل عُسْر وعُسُر، ورجل أَفَقى بفتح الهمزة والفاء: إذا كان من آفاق الأرض.
حكاه أبو نصر.
وبعضهم يقول: أفُقيّ بضمهما وهو القياس.
وأنشد غير الجوهري:
أخَذْنَا بِآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُمُ ** لنا قَمَراها والنُّجُومُ الطَّوالِعُ

{وَفِي أَنْفُسِهِمْ} من لطيف الصنعة وبديع الحكمة حتى سبيل الغائط والبول؛ فإن الرجل يشرب ويأكل من مكان واحد ويتميز ذلك من مكانين، وبديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء ينظر بهما من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة.
وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه.
وقيل: {وفي أَنفُسِهِمْ} من كونهم نطفًا إلى غير ذلك من انتقال أحوالهم كما تقدّم في المؤمنون بيانه.
وقيل: المعنى سيرَوْن ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن وأخبار الغيوب {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} فيه أربعة أوجه: أحدها أنه القرآن.
والثاني الإسلام جاءهم به الرسول ودعاهم إليه.
والثالث أن ما يريهم الله ويفعل من ذلك هو الحق.
والرابع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الحق.
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} في موضع رفع بأنه فاعل ب {يَكْفِ} و{أَنَّهُ} بدل من {رَبِّكَ} فهو رفع إن قدّرته بدلًا على الموضع، وجَرّ إن قدرته بدلًا على اللفظ.
ويجوز أن يكون نصبًا بتقدير حذف اللام، والمعنى أولم يكفهم ربك بما دلهم عليه من توحيده؛ لأنه {على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وإذا شهده جازى عليه.
وقيل: المعنى {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} في معاقبته الكفار.
وقيل: المعنى {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار.
وقيل: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} شاهدًا على أن القرآن من عند الله.
وقيل: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} مما يفعله العبد {شَهِيدٌ} والشهيد بمعنى العالم؛ أو هو من الشهادة التي هي الحضور {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} في شك {مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ} في الآخرة.
وقال السدي: أي من البعث.
{أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} أي أحاط علمه بكل شيء.
قاله السدي.
وقال الكلبي: أحاطت قدرته بكل شيء.
وقال الخطابي: هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا.
وهذا الاسم أكثر ما يجيء في معرض الوعيد، وحقيقته الإحاطة بكل شيء، واستئصال المحاط به، وأصله مُحْيِطْ نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت.
يقال منه: أحاط يحيط إحاطة وحيطة؛ ومن ذلك حائط الدار، يحوطها أهلها.
وأحاطت الخيل بفلان: إذا أخِذ مأخذًا حاصرًا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] والله أعلم بصواب ذلك. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} عن الشكر {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} تكبر واختال على أن الجانب بمعنى الناحية والمكان ثم نزل مكان الشيء وجهته كناية منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} [الرحمن: 46] وقول الشاعر:
ذعرت به القطا ونفيت عنه ** مقام الذئب كالرجل اللعين

وقول الكتاب حضرة فلان ومجلسه العالي وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريد نفسه وذاته فكأنه قيل: نأى بنفسه ثم كنى بذهب بنفسه عن التكبر والخيلاء، وجوز أن يراد {بِجَانِبِهِ} عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا ثنى عطفه وتولى بركنه والأول مشتمل على كنايتين، وضع الجانب موضع النفس والتعبير عن التكبر البالغ بنحو ذهب بنفسه وهذا على واحدة على ما في الكشف، وجعل بعضهم الجانب والجنب حقيقة كالعطف في الجارحة وأحد شقي البدن مجازًا في الجهة فلا تغفل، وعن أبي عبيدة نأى بجانبه أي نهض به وهو عبارة عن التكبر كشمخ بأنفه، والباء للتعدية ثم إن التعبير عن ذات الشخص بنحو المقام والمجلس كثيرًا ما يكون لقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم وهو يتركون التصريح به عند إرادة تعظيمه قال زهير:
فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى ** وإياك أن تنسى فتذكر زينبا

سيكفيك من ذاك المسمى إشارة ** فدعه مصونًا بالجلال محجبًا

ومن هنا قال الطيبي: إن ما هنا وارد على التهكم.
وقرئ {ونآ} بإمالة الألف وكسر النون للاتباع {وناء} على القلب كما قالوا راء في رأى {بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} أي كثير مستمر مستعار مما له عرض متسع وأصله مما يوصف به الأجسام وهو أقصر الامتدادين وأطولهما هو الطول، ويفهم في العرف من العريض الاتساع وصيغة المبالغة وتنوين التكثير يقويان ذلك، ووصف الدعاء بما ذكر يستلزم عظم الطول أيضًا لأنه لابد أن يكون أزيد من العرض وإلا لم يكن طولًا، والاستعارة في كل من الدعاء والعريض جائزة ولا يخفى كيفية إجرائها.
وذكر بعض الأجلة أن الآيات قد تضمنت ضربين من طغيان جنس الإنسان فالأول: في بيان شدة حرصه على الجمع وشدة جزعه على الفقد والتعريض بتظليم ربه سبحانه في قوله: {هذا لِى} [فصلت: 50] مدمجًا فيه سوء اعتقاده في المعاد المستجلب لتلك المساوي كلها، والثاني: في بيان طيشه المتولد عنه إعجابه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها وقد ضمن في ذلك ذمه بشغله بالنعمة عن المنعم في الحالتين، أما في الأول: فظاهر، وأما في الثاني: فلأن التضرع جزعًا على الفقد ليس رجوعًا إلى المنعم بل تأسف على العقد المشغل عن المنعم كل الاشغال، وذكر أن في ذكر الوصفين ما يدل على أنه عديم النهية أي العقل ضعيف المنة أي القوة فإن اليأس والقنوط ينافيان الدعاء العريض وأنه عند ذلك كالغريق المتمسك بكل شيء انتهى، ومنه يعلم جواب ما قيل: كونه يدعو دعاء عريضًا متكررًا ينافي وصفه بأنه يؤس قنوط لأن الدعاء فرع الطمع والرجاء وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس فظهور ما يدل على الرجال يأباه، وأجاب آخرون بأنه يجوز أن يقال: الحال الثاني شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات، واستدل بعضهم بقوله تعالى: {فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} على أن الايجاز غير الاختصار وفسره لهذه الآية بحذف تكرير الكلام مع اتحاد المعنى والإيجاز بحذف طوله وهو الاطناب وهو استدلال بما لا يدل إذ ليس فيها حذف ذلك العرض فضلًا عن تسميته.
{قُلْ أَرَءيْتُمْ} إلخ رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين وختم للسورة بما يلتفت لفت بدئها وهو من الكلام المنصف وفيه حث على التأمل واستدراج للإقرار مع ما فيه من سحر البيان وحديث الساعة وقع في البين تتميمًا للوعيد وتنبيهًا على ما هم فيه من الضلال البعيد كذا قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام في ذلك، ومعنى {أَرَءيْتُمْ} أخبروني {إِن كَانَ} أي القرآن {مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} مع تعاضد موجبات الايمان به، و{ثُمَّ} كما قال النيسابوري للتراخي الرتبي {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ في شِقَاقٍ} أي خلاف {بَعِيدٍ} غاية البعد عن الحق، والمراد ممن هو في شقاق المخاطبون، ووضع الظاهر موضع ضميرهم شرحًا لحالهم بالصلة وتعليلًا لمزيد ضلالهم، وجملة {مَنْ أَضَلَّ} على ما قال ابن الشيخ سادة مسد مفعولي {رأيتم} وفي البحر المفعول الأول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو جملة الاستفهام، وأيًا ما كان فجواب الشرط محذوف، قال النيسابوري: تقديره مثلًا فمن أضل منكم، وقيل: إن كان من عند الله ثم كفرتم به فأخبروني من أضل منكم، ولعله الأظهر.
وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}. إلخ. مرتبط على ما اختاره صاحب الكشاف بقوله تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ} [فصلت: 52] إلخ على وجه التتميم والإرشاد إلى ما ضمن من الحث على النظر ليؤدي إلى المقصود فيهدوا إلى إعجازه ويؤمنوا بماجاء به ويعملوا بمقتضاه ويفوزوا كل الفوز، وفسر الآيات بما أجرى الله تعالى على يد نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى أيدي خلفائه وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم من الفتوحات الدالة على قوة الإسلام وأهله ووهن الباطل وحزبه، والآفاق النواحي الواحد أفق بضمتين وأفق بفتحتين أي سنريهم آياتنا في النواحي عمومًا من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، وفيه أن هذه الإراءة كانئة لا محالة حق لا يحوم حولها ريبة {وَفِى أَنفُسِهِمْ} في بلاد العرب خصوصًا وهو من عطف {جبريل} على {ملائكته} [البقرة: 98].
وفي العدول عنها إلى المنزل ما لا يخفى من تمكين ذلك النصر وتحقيق دلالته على حقية المطلوب إثباته وإظهار أن كونه آية بالنسبة إلى الأنفس وإن كان كونه فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلدة {حتى يَتَبَيَّنَ} يظهر {لَهُمْ أَنَّهُ} أي القرآن هو {الحق} الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الحق كله من عند الله تعالى المطلع على كل غيب وشهادة فلهذا نصر حاملوه وكانوا محقين، وفي التعريف من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدرًا، وفيما ذكر إشارة إلى أنه تعالى لا يزال ينشيء فتحًا بعد فتح وآية غب آية إلى أن يظهر على الدين كله ولو كره المشركون فانظر إلى هذه الآية الجامعة كيف دلت على حقية القرآن على وجه تضمن حقية أهله ونصرتهم على المخالفين وأعظم بذاك تسليًا عما أشعرت به الآية السابقة من انهماكهم في الباطل إلى حد يقرب من اليأس، وقيل: الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام أو الدين أو التوحيد ولعل الأول أولى {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ} استئناف وارد لتوبيخهم على إنكارهم تحقق الإراءة.
والهمزة للإنكار والواو على أحد الرأيين للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة يقتضيه المقام والباءة مزيدة للتأكيد و{رَبَّكَ} فاعل كفى وزيادة الباء في فاعلها هو القول المشهور المرضى للنحاة وتزاد في فاعل فعل التعجب أيضًا نحو أحسن بزيد فإن أحسن فعل ماض جيء به على صيغة الأمر والباء زائدة وزيد فاعل عند جماعة من النحويين ولا تكاد تزاد في غيرهما، وقوله:
ألم يأتيك والانباء تنمى ** بما لاقت لبون بني زياد

شاذ قبيح على ما قال الشهاب، وقوله تعالى: {أَنَّهُ على كُلّ شيء شَهِيدٌ} بدل من الفاعل بدل اشتمال، وقيل: هو بتقدير حرف الجر أي أو لم يكفهم ربك بأنه الخ، وما للنحويين في مثل هذا التركيب من الكلام شهير، أي انكروا إراءة ذلك الدالة على حقية القرآن ولم يكفهم دليلًا أنه عز وجل مطلع على كل شيء عالم به ومن ذلك حالهم وحالك الموجبان حكمة نصرك عليهم وخذلانهم، وكأن ذلك لظهوره نزل منزلة المعلوم لهم.
وفي الكشف أي أو لم يكفهم أن ربك سبحانه مطلع على كل شيء يستوي عنده غيب الأشياء وشهادتها على معنى أو لم يكفهم هذه الإراءة دليلًا قاطعًا ولما كان ما وعده غيبًا عنهم كيف وقد نزل وهم في حال ضعف وقلة يقاسون ما يقاسون من مشركي مكة قيل: أو لم يكفهم إطلاع من هذا الكتاب الحق من عنده على كل غيب وشهادة دليلًا على كينونة الإراءة وإحضار ذلك الغيب عندهم إذ لا غيب بالنسبة إليه تعالى، وفي العدول إلى هذه العبارة فائدتان:
إحداهما: تحقيق إنجاز ذلك الموعود كأنه مشاهد بذكر الدليل القاطع على الوقوع.
والثانية الدلالة على أن هذه الإراءة الآن وهم في ضعف وقلة قد تمت بالنسبة إلى إثبات حقية القرآن لأن من علم أنه تعالى على كل شيء شهيد وعلم أن القرآن معجز من عنده علم أن جميع ما فيه حق وصدق فعلم أن تلك النصرة كائنة.
والحاصل أنه كما يستدل من تلك الآيات على حقيقة القرآن وحقية أهله تارة يستدل من إعجاز القرآن على حقية تلك الآيات وقوعًا وحقية أهل الإسلام أخرى فأدى المعنيان في عبارة جامعة تؤدي الغرضين على وجه لا يمكن أتم منه. انتهى.
ولا يخفى أن في الآية عليه نوعًا من الألغاز، وقيل: أي ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده عز وجل، وهو كما ترى، وقيل: المعنى ولم يكفك أنه تعالى عل كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة.
وتعقب بأنه مع إيهامه ما لا يليق بجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم من التردد فيما ذكر من تحقق الموعود لا يلائم قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ} أي في شك عظيم من ذلك بالبعث لاستبعادهم إعادة الموتى بعد تبدد أجزائهم وتفرق أعضائهم فلا يلتفتون إلى أدلة ما ينفعهم عند لقائه تعالى كحقية القرآن لأنه صريح في أن عدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم.
وقوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شيء مُّحِيطُ} لبيان ما يترت على تلك المرية بناء على أن المعنى أنه تعالى عالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا يخفى عليه جل وعلاخافية منهم فيجازيهم جل جلاله على كفرهم ومريتهم لا محالة.